كتائب المسيرة الخضراء
عندما قرر الملك الحسن الثاني تنظيم المسيرة الخضراء عام 1975، لم يكن الجيش المغربي مستعدا لخوض حروب طويلة الأمد مع إسبانيا التي كانت تحتل آنذاك الصحراء، فالجيش المغربي تعرض الى تصفية كبيرة على إثر المحاولتين الانقلابيتين الفاشلتين في بداية السبعينيات، وتمخض عن فشل ذينك المحاولتين إعدام العديد من الجنرالات وكبار الضباط واعتقال العشرات وتسريح المئات وزرع جو من عدم الثقة بين أفراد الجيش وقيادته العليا التي كانت متمثلة في الملك الراحل الحسن الثاني. ولأول مرة في التاريخ سيخوض جيش نظامي حربا طويلة الأمد بدون وزير حرب، وقيادة عسكرية عليا؛ فالتنسيق كما قال ضابط متقاعد لـ"الجريدة الأخرى" كان يتم مباشرة بين الملك الحسن الثاني شخصيا وبعض كبار قادة الجيش الذين كانوا يكلفون بمهام محددة في الزمان والمكان. وخلال فترة الحرب الأولى اشتهر اسم العقيد أحمد الدليمي كقائد ميداني للقوات المسلحة المتمركزة في الصحراء، وظل كذلك حتى سنة وفاته التي ما تزال غامضة في حادثة سير عام 1981، ليخلفه في الموقع نفسه الجنرال عبدالعزيز بناني الذي ظل يتولى منصب قائد قيادة المنطقة الجنوبية المتمركزة في أكادير حتى تاريخ تعيينه مفتشا عاما للقوات المسلحة الملكية قبل سنتين.
الجنرال بناني، الذي يعتبر اليوم أرفع ضابط عسكري مغربي، كان عقيدا عندما اندلعت الحرب أول مرة في الصحراء، ويتذكر أحد الضباط الذين تحدثوا الى "الجريدة الأخرى" أنه رأى عبدالعزيز بناني لأول مرة في الصحراء على متن طائرة مروحية عندما جاء لتفقد خسائر قواته في أول معركة نشبت بين مقاتلي البوليساريو والقوات المسلحة المغربية بمنطقة الحوزية، كان ذلك عام 1975، وكانت تلك أول الشرارة في حرب ستطول ثلاثة عقود. تيمنا بفكرة المسيرة الخضراء، أطلق الملك الراحل الحسن الثاني اسم "كتائب المسيرة الخضراء" على أولى الكتائب التي رافقت المسيرة وتقدمت المتطوعين. بلغ عدد تلك الكتائب أكثر من خمس كتائب كانت كل واحدة منها تضم نحو 450 شخصا، وأسندت قياداتها الى ضباط صحراويين وقدماء جيش التحرير أمثال أب الشيخ وباعلي والخر محمد ولحبيب حبوها والشريف المختار ولد الغيلاني ومحمد قشار… وكلهم كانوا برتبة رائد (كابتن)، وكانت مهمة هذه الكتائب التقدم للاستكشاف وفتح الطريق أمام الفيالق العسكرية، وقد ساعدها كون جل أفرادها من أبناء المنطقة على تحقيق انتصارات خاطفة في كل هجماتها التي كانت تشنها، وأدت الى فتح الطريق أمام قوات الجيش المغربي للدخول الى السمارة والعيون وبوجدور. وخلف هذه الكتائب كانت توجد فيالق يتعدى عدد أفراد الفيلق الواحد منها 2000 فرد، من بينها فيلق السمارة وفيلق بوكراع وفيلق طرفاية وفيالق متجولة للإسناد والنجدة، وقد أسندت قيادة هذه الفيالق الى ضباط عسكريين مخضرمين من بينهم من شارك في حرب الرمال عام 1963، ومن بينهم من شارك في حرب عام 1973 بالجولان في سوريا ومن بينهم خريجين من مدارس عسكرية غربية. واشتهر من بين قادة هذه الفيالق الرائد الطوبجي المحجوب، قائد الفيلق الرابع المتجول، والعقيد محمد العجدامي قائد الفيلق السادس المتجول، والعقيد محمد العابدين، قائد الفيلق الثاني المتجول… ومع احتدام المعارك واتساع نطاق مواقعها التي وصلت الى منطقة آسا الزاك بالقرب من الحدود الجزائرية المغربية، شكل المغرب قوات ما يسمى بالوحدات المتنقلة التي كانت مشكلة من القوات المسلحة والقوات المساعدة، وأغلب أفرادها من أبناء المناطق الجنوبية المغربية ممن كانوا يعرفون المنطقة ولهم قدرة كبيرة على تحمل قساوة مناخها وصلابة طبيعتها، واشتهرت من بين هذه الوحدات وحدات أيدة التامك وامحمد مولاي والخرشي وغيرهم…
حرب بدون جبهات
لم تكن القيادة العسكرية المغربية تتوقع أن يطول أمد الحرب، لذلك خططت لهجمات خاطفة تقودها الكتائب والوحدات تعقبها الفيالق لتقوم بالتمشيط والتطهير قبل أن تبسط سيطرتها على المنطقة التي توجد فيها.
ومن جانب البوليساريو لم تكن الأمور تسير على أحسن ما يرام، فعند اندلاع الحرب عام 1975 لم يكن الجيش الشعبي لتحرير الصحراء قد تأسس بعد، وما كان موجودا آنذاك هو مجموعة من المقاتلين يدفعهم حماسهم الثوري لمقاتلة المغاربة والإسبان والموريتانيين في الآن نفسه من خلال تتنفيذ حرب عصابات خاطفة. بدأت أولى معارك القوات المسلحة الملكية المغربية بعملية "أحد" تيمنا باسم ثاني حرب في عهد الإسلام. وأدت تلك المعركة الى دخول القوات المسلحة المغربية الى مناطق الفارسية واجديرية والحوزة والمحبس والوصول الى السمارة في وقت كانت القوات الإسبانية ما زالت تحتل مدينة العيون وبوكراع، وبعد توقيع اتفاقات مدريد عام 1975 بين المغرب وموريتانيا ومدريد، دخلت القوات المسلحة المغربية الى العيون وبوجدور، بينما بسطت موريتانيا سيطرتها على منطقة وادي الذهب الممتدة من شمال الداخلة حتى منطقة الكويرة جنوبا، في حين تراجعت قوات البوليساريو الى الداخل الجزائري وبدأت في تشييد معسكراتها بمنطقة تندوف وتسليح مقاتليها استعدادا للحرب التي بدأت تدق طبولها بقوة ضد جيشين نظاميين هما الجيش المغربي والجيش الموريتاني. في عام 1976 بدأت فعليا وعلى أرض الواقع حرب الصحراء، فالانتصارات السريعة التي حققتها القوات المغربية وأحيانا بدون خسائر، بل وحتى بدون طلقة نار واحدة، سرعان ما سيتبين أنها لم تكن سوى معارك بنهايات سعيدة ضمن حرب طويلة الأمد بلا نهاية.
أولى المعارك
كانت أول معركة حقيقية خاضتها القوات المسلحة الملكية هي تلك التي شهدتها منطقة أمكالة في يناير عام 1976، وشاركت فيها قوات جزائرية الى جانب مقاتلي جبهة البوليساريو، وتمخضت تلك الحرب عن انتصار باهر للمغرب وأسر نحو 100 عسكري جزائري من بينهم ضباط، لكن الحسن الثاني قرر تسليمهم الى الجزائر لتفادي وقوع حرب كبيرة بين المغرب والجزائر، ومنذ تلك المعركة لم يحدث أي اشتباك على بين المغرب والجزائر التي ظلت تدعم مقاتلي جبهة البوليساريو بالعتاد والسلاح. لكن القوات الجزائرية التي خرجت مهزومة من أمكالة ظلت تراودها الرغبة في الانتقام، وبعد أسابيع من الموقعة الأولى شن مقاتلو البوليساريو، مدججين بأحدث الأسلحة الجزائرية، هجوما كبيرا على القوات المسلحة المغربية في المعركة التي ستحمل اسم أمكالة2، والتي كان فيها التفوق لمقاتلي البوليساريو. ومنذ هاتين الواقعتين، دخلت قوات الجانبين المغربي والبوليساريو في حرب عصابات طويلة الأمد، مما أدى بالقوات المسلحة المغربية الى التراجع الى المدن لتحصينها ضد الهجمات وحماية طرق القوافل لضمان وصول الإمدادات العسكرية والغذائية لها، وهكذا تحولت مهام هذه القوات الى حماية قوافل الإمدادات، مما فسح المجال أمام مقاتلي البوليساريو للتحرك بحرية في باقي مناطق الصحراء التي كانوا يخبرون تضاريسها وطبيعتها. وخلال هذه الفترة حققت البوليساريو أكثر انتصاراتها في الهجومات الخاطفة التي كانت تقودها ضد قوافل الإمدادات والكمائن التي كانت تنصبها لها، وأيضا من خلال هجوماتها المباغتة على المواقع المدنية، مثل هجومها على مدينة طانطان عام 1979. فمقاتلو البوليساريو، كما يقول خبير عسكري مغربي تحدث الى "الجريدة الأخرى"، سرعان ما انسجموا مع حرب العصابات التي كانوا يتقنونها، لمعرفتهم الكبيرة بتضاريس المنطقة وقدرتهم على تحمل قساوة مناخها. أما الجيش المغربي الذي تلقى التدريب على خوض حرب تقليدية، فقد فوجئ قادته بحرب بدون جبهات للقتال. من هنا -يضيف نفس الخبير- كانت فكرة إنشاء وحدات وكتائب مستقلة لمطاردة فلول مقاتلي البوليساريو ولخوض حرب عصابات
مضادة ضدهم
الفرج يأتي من السماء
يقول ضابط صف مغربي متقاعد خاض العديد من معارك الصحراء >عندما كانت تشتد المعركة، كان الفرج يأتينا من السماء< وما يقصده ضابط الصف هو تدخل الطيران المغربي، الذي غالبا ما كان يحسم المعركة لصالح المغرب أو ينهيها بصفة درامية عندما يجهز على كل ما يتحرك بأرض المعركة. وطوال فترة المعارك، لعب سلاح الطيران المغربي دورا كبيرا في تلك المعارك، لم يكن يخلو من مخاطر، إذ نجح مقاتلو البوليساريو بفضل صواريخ سام السوفياتية الصنع التي سلمتها لهم الجزائر في إسقاط أكثر من طائرة حربية مغربية. وسجلت معركة الوركزيز في بداية الثمانينيات أكبر ملحمة في حرب الطيران المغربي، لكنها تسببت لسلاح الجو في أفدح الخسائر تمثلت في سقوط طائرتين حربيتين من نوع F5 وناقلة جنود طائرة ومروحية وأسر طيارين مغاربة. وأمام قوة سلاح نيران مقاتلي البوليساريو، الذين كانوا مزودين بدبابات تعمل بنظام الأشعة ما فوق الحمراء، التي تجعلها تعمل حتى في عتمة الليل، لعب سلاح الطيران المغربي دورا بارزا في حسم المعركة لصالح المغربي.
الجدار بديلا عن الجبهة
عام 1979، انسحبت موريتانيا من منطقة واد الذهب، وفي يوم خروج القوات الموريتانية كانت أولى فيالق الجيش المغربي قد دخلت الى مدينة الداخلة ونشرت قواتها بالمناطق التي كانت القوات الموريتانية تنسحب منها. وفي عام 1980 وجدت القوات المغربية نفسها أمام مهمة حماية وحراسة مساحة شاسعة هي مساحة الصحراء التي تقدر بنحو 270 ألف كيلو متر مربع! كان على قيادة الجيش المغربي أن تغير من خططها الحربية، وهكذا تقرر خروج قوات الجيش من المدن وتشكيل أحزمة أمن خارجية لحراستها، وعندما أعطت الخطة الجديدة أولى ثمارها بدأ التفكير جديا في بناء جدار أمني طويل داخل الصحراء، ويقال إن الفكرة جاءت من أجهزة مخابرات أجنبية من بينها جهاز الموساد الإسرائيلي. وهكذا بدأت حرب جديدة هي حرب بناء الجدار التي استمرت من 1980 حتى 1987، وخاضت هذه الحرب ثلاثة فيالق مدرعة هي أحد والزلاقة ولاراك، التي كان كل فيلق منها يتكون من 20 ألف رجل. وبدأ بناء أول جدار أمني عام 1980 حول محور بوجدور السمارة بوكراع، ومع نجاح تجربة الجدار بدأت القوات المسلحة الملكية المغربية في استعادة سيطرتها على أرض المعركة، وفي أوج انتصاراتها في الصحراء سيعلن عن الوفاة المفاجئة للجنرال أحمد الدليمي في حادثة سير ما تزال ملابساتها غامضة، حدث ذلك ذات يوم من بدايات عام 1983، وتلت تلك الوفاة المفاجئة لمن كان يعتبر قائد القوات المسلحة الملكية في الصحراء إزاحة العديد من القيادات والضباط من صفوف الجيش ممن كانوا محسوبين على الدليمي! في عام 1987، أنهت القوات المسلحة الملكية المغربية بناء آخر شطر من الجدار الأمني الذي أصبح طوله 2500 كيلومتر، وشعر القادة الميدانيون بتحقيق أول انتصار معنوي لهم، فقد أصبح للحرب في نهاية المطاف جبهة، وأصبحت القوات المغربية هي التي تسيطر على هذه الجبهة، وفي القاموس العسكري السيطرة على الجبهة تعني تحقيق التفوق العسكري.
لم تنته هجمات مقاتلي البوليساريو، لكنها لم تعد بالحدة نفسها التي كانت عليها من قبل وأصبح على هؤلاء المقاتلين اللذين كان يقدر عددهم ما بين 30 و40 ألف رجل عبور مئات الكيلومترات من أجل شن هجوم غير مضمون العواقب، كما أن هامش تحركهم تقلص الى منطقة صغيرة في الشمال الموريتاني، وفي المنطقة العازلة الفاصلة ما بين الجدار الأمني والحدود الجزائرية، والتي لم يرد من خططوا لبناء الجدار إيصاله الى الحدود الجزائرية، تلافيا لكل تماس مع القوات المسلحة الجزائرية. وهذه المنطقة العازلة هي ما تعتبرها البوليساريو اليوم >مناطق محررة<.
آخر المعارك
أنهى الجدار الأمني المغربي حرب العصابات التي كان يشنها مقاتلو البوليساريو، وبدأت حرب جديدة هي حرب الاستنزاف من الجانبين، وهكذا عرفت أعوام 1987 و1988 و1989، هجومات متكررة على أكثر من منطقة من الجدار كانت تخلف خسائر فادحة في الأرواح من الجانبين، لكن بدون فائدة بالنسبة للبوليساريو التي كانت تستغلها فقط للدعاية الإعلامية. وكانت آخر المعارك التي شنها مقاتلو البوليساريو بقيادة القائد لحبيب أيوب في أكتوبر عام 1989 على كلتة زمور، وقد حشد البوليساريو أكبر عدد من العتاد للمشاركة في تلك المعركة التي أسفرت عن مقتل نحو مائة من مقاتليها.
وقد علق على تلك المعركة آنذاك عمر الحضرمي، العائد لتوه الى المغرب، بوصفها >آخر طلقة<، وبالفعل كانت تلك هي الطلقة الأخيرة، ففي شهر غشت عام 1991 ستوقع البوليساريو والمغرب على اتفاق لوقف إطلاق النار ما زال ساري المفعول حتى يومنا هذا أنهى المعارك لكنه لم ينه الحرب